كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال اللّه تعالى: {يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)}.
خَيْرٍ: المراد به هنا المال.
اليتيم: من فقد والده وهو صغير، فإذا بلغ زال عنه اسم اليتم.
المسكين: من عجز عن كسب ما يكفيه، وسكن إلى الرضا بالقليل.
ابن السبيل: المسافر، وسمّي به لملازمته إياه، كما يقال للرجل الذي أتت عليه الدهور: ابن الأيام والليالي.
يقول اللّه تعالى: يسألك أصحابك يا محمد أي شيء ينفقونه من أموالهم في الصدقة؟ وعلى من ينفقون؟
فقل لهم: ما أنفقتم من أموالكم فاجعلوه لآبائكم، وأمهاتكم وأقربائكم واليتامى منكم، الذين مات كافلهم، والمساكين الذين عجزوا عن الكسب والمسافرين الذين انقطعت بهم السبل وما تأتوا من خير فإنّ اللّه به عليم، فيجازيكم عليه. وقد اختلف في هذه الآية.
1- فقيل: إنها منسوخة بآية الزكاة {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ} [التوبة: 60].
2- وقيل: إنها غير منسوخة، وهو الأولى وهي لبيان صدقة التطوع، فإنّه متى أمكن الجمع فلا نسخ.
وقد بينت الآية أنّ صدقة التطوع في الوالدين والأقربين أفضل، ويدل على ذلك ما روي عن صدقة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «يا معشر النّساء، تصدّقن ولو من حليّكنّ». فقالت زينب امرأة عبد اللّه بن مسعود لزوجها: أراك خفيف ذات اليد فإن أجزأت عنّي فيك صرفتها إليك، فأتت النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فسألته فقالت: أتجزئ الصدقة على زوجي وأيتام في حجري؟ فقال لها النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «نعم، ولك أجران: أجر الصدقة وأجر القرابة».
وفي رواية: «زوجك وولدك أحقّ من تصدّقت عليه».
وروى النّسائي وغيره أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «يد المعطي العليا. أباك، وأمّك وأختك، وأخاك، وأدناك أدناك».
وروى مسلم عن جابر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «ابدأ بنفسك فتصدّق عليها».
قال قيل: إنهم سألوا عن المنفق، وأجيبوا ببيان المنفق عليهم، فلم يتطابقا؟
قيل: إن ذلك على أسلوب الحكيم. فقد سألوا عن شيء، وأجابهم عما هو أهم منه، وهو بيان مواطن الإنفاق، لأنّ الإنفاق لا يحدث الخير الذي يؤدي إليه حتى يصادف موقعه. قال الشاعر:
إنّ الصّنيعة لا تكون صنيعة حتّى يصاب بها طريق المصنع ومن نظر إلى أحوال مصر وجد الإحسان فيها فوضى، وما أحوجها إلى عمل ينتظم به الإحسان، ليقع موقعه، ويصيب أهله.
قال اللّه تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)}.
كتب: فرض.
الكره بالضم: ما حمل الرجل نفسه عليه من غير إكراه أحد إياه عليه. والكره بالفتح: ما حمله عليه غيره، قال معاذ بن مسلم الكره: المشقة، والكره: الإجبار، وقال بعضهم: الكره والكره لغتان بمعنى واحد، كالغسل والغسل، والضعف والضعف، وقيل: هو بفتح الكاف اسم، وبالضم مصدر. وهو إما على حذف مضاف. أي ذو كره، أو من باب الوصف بالمصدر مبالغة كقولها:
فإنّما هي إقبال وإدبار وقيل: إن المصدر أقيم مقام اسم المفعول.
المعنى: فرض عليكم أيها المسلمون قتال الكفار، وهو كره لكم، ولعلّكم تكرهون شيئا وهو خير لكم، ولعلكم تحبون شيئا وهو شرّ لكم، إذ هم يكرهون القتال وفيه الفتح والغنيمة والشهادة والقوة. ويحبون القعود، وفيه الذلّ والاستعباد، واللّه يعلم ما هو خير لكم مما هو شر لكم. فلا تكرهوا ما فرض عليكم من القتال. فإنّه يعلم أنه خير لكم في عاجلكم، ولا تحبوا القعود، فإنّه شر لكم، فإنّ الدنيا بنيت على التدافع، وأنتم لا تعلمون ما يعلمه اللّه، وقد اختلف في الذين كتب عليهم القتال في هذه الآية:
1- قال الأوزاعي: نزلت في الصحابة، فهم الذين كتب عليهم الجهاد، وبه قال عطاء.
2- وقال غيرهما: إنّ القتال قد كتب على جميع المسلمين، لكن تختلف الحال، فإن كان الإسلام ظاهرا فهو فرض على الكفاية، وإن كان العدو ظاهرا فهو فرض على الأعيان، حتّى يكشف اللّه ما بهم، وهذا هو الظاهر.
وقد روى البخاري عن مجاشع: قال أتيت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنا وأخي، فقلت: بايعني على الهجرة، فقال: «مضت الهجرة لأهلها».
قلت: علام تبايعنا؟
قال: على الإسلام، والجهاد.
وقد روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيّة، وإذا استنفرتم فانفروا».
قال اللّه تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ} [217- 218].
قال اللّه تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}.
{قِتالٍ} بدل من الشهر.
{كَبِيرٌ} عظيم.
{وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} مبتدأ وخبره أكبر عند اللّه.
{وَكُفْرٌ بِهِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} عطف عليه.
{وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ} عطف على سبيل اللّه.
{وَالْفِتْنَةُ} الشرك.
{يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} يرجع عنه.
{حَبِطَتْ} بطلت، وبطلانها ذهاب ثوابها.
ذكر في أسباب نزول هذه الآية أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعث عبد اللّه بن جحش- وهو ابن عمته- في ثمانية من المهاجرين في رجب، مقفله من بدر الأولى، ليأتوه بأخبار قريش، ولم يأمرهم بقتال، فمضوا، حتى كانوا بنجران، فأضلّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه، فتخلّفا يطلبانه، ومضى القوم حتّى نزلوا نخلة، فبينما هم كذلك إذ مرت بهم عير لقريش فيهم عمرو بن الحضرمي، والحكم بن كيسان، وعثمان بن عبد اللّه بن المغيرة، وأخوه نوفل. وأشرف لهم عكّاشة بن محصن من أصحاب عبد اللّه بن جحش، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه حليقا قالوا: عمّار فليس عليكم منهم بأس، وأتمر بهم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا:
لئن قتلتموهم لنقتلنهم في الشهر الحرام، ولئن تركتموهم ليدخلنّ في هذه الليلة الحرم، فليمتنعنّ منكم، فأجمع القوم على قتلهم، فرمى واقد بن عبد الملك التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل، واستاقوا العير، فقدموا بها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال لهم: «ما أمرتكم بالقتال في الشّهر الحرام» فوقّف رسول اللّه الأسيرين والعير، فسقط في أيديهم، وظنّوا أن قد هلكوا، وقالت قريش: قد سفك محمد الدم الحرام، وأخذ المال، وأسر الرّجال، واستحلّ الشهر الحرام، فنزل قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ} الآية، فأخذ النبي العير، وفدى الأسيرين.
وفي بعض الروايات أن قريشا لما بلغهم الخبر أرسلوا وفدا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا: أيحلّ القتال في الشهر الحرام فنزلت.
وقال بعض المسلمين: إن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجر، فأنزل اللّه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا} الآية.
المعنى: يسألك يا محمد أصحابك عن القتال في الشهر الحرام، وهو رجب، قل: قتال فيه إثم كبير وصدّ قريش عن سبيل اللّه وعن المسجد الحرام، وكفرهم باللّه، وإخراجكم من المسجد الحرام وأنتم أهله، كلّ أولئك أكبر إثما عند اللّه من قتل من قتلتم منهم وقد كانوا يفتنون المسلم عن دينه، حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، وذلك أكبر عند اللّه من القتل، أي أنكم أيها المسلمون ترتكبون أخفّ الضررين، وأهون الشرين، وتزيلون إثما كبيرا بما هو أقلّ منه.
{وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا} أي: هم مقيمون على الشر والمنكر، ومن يرجع منكم عن دينه، فيمت وهو كافر قبل أن يتوب، فهم الذين بطلت أعمالهم، وذهب ثوابها والأجر عليها، وهم أهل النار المخلّدون فيها، الماكثون فيها من غير أمد ولا نهاية.
إنّ الّذين صدّقوا باللّه، والذين هاجروا مساكنة المشركين فيها في ديارهم، وكرهوا سلطان المشركين، فتحوّلوا عنه خوفا من أن يفتنهم المشركون، وحاربوهم في دين اللّه، أولئك يطمعون في رحمة اللّه، واللّه ساتر ذنوب عباده، ورحيم بهم، ومن المهاجرين عبد اللّه بن جحش وأصحابه، فنزلت هذه لتطمينهم.
وعلى الرواية الثانية- وهي أنّ وفدا من المشركين سأل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن القتال في الشهر الحرام- يكون المعنى: إن المشركين متناقضون، يتمسّكون بحرمة الشهر الحرام، ويفعلون ما هو أكبر من ذلك: من الصد عن سبيل اللّه، ومع الكفر به، والمسجد الحرام وإخراج أهله منه والفتنة التي فتنوا بها بعض المسلمين عن دينهم أكبر إثما عند اللّه، فهم كمن يبصر القذاة في عين أخيه، ويغفل عن الخشبة المعترضة في عينه.
الأحكام:
دلت هذه الآية على حرمة القتال في الشهر الحرام، وهل بقيت الحرمة أم نسخت؟
اختلف في ذلك المفسّرون: فذهب عطاء إلى أن هذه الآية لم تنسخ، وكان يحلف على ذلك، ولعلّ ذلك لأنّ الآية التي تأمر بالقتال عامة في الأزمنة، وهذه خاصة، والعام لا ينسخ الخاصّ.
وقال سائر العلماء: إنها منسوخة. وقد اختلف في الناسخ، فقيل: هو {وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] وقيل: هو: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29].
وإنما ذهب العلماء إلى نسخها، لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غزا هوازن بحنين، وثقيفا بالطائف، وأرسل أبا عامر إلى أوطاس ليحارب من فيها من المشركين، وكان ذلك في بعض الأشهر الحرم، ولو كان القتال فيهن حراما لما فعله النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال ابن العربي: والصحيح أن هذه الآية ردّ على المشركين حين أعظموا على النبي القتال في الشهر الحرام. فقال تعالى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ} وهي الكفر في الشهر الحرام {أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} فإذا فعلتم ذلك كله في الشهر الحرام تعيّن قتالكم فيه.